١-لمحة تعريفية بمفهوم وأهمية العدالة الاجتماعية
إن مفهوم العدالة الاجتماعية هو مفهوم سوسْيو-اقتصادي ذو حمولة أخلاقية وسياسية قوية.ونظرا لتعدد روافده توجد تعريفات عديدة له بحيث لا يتسع المقام لحصرها لكن بإجراء استقراء سريع لعديد التعريفات المتعلقة به يمكننا القول إن القاسم المشترك بينها يدور حول هدف جوهري جامع مانع ألا وهو تحقيق أكبر قدر ممكن من الانصاف والمساواة في الحقوق من جهة ومن جهة أخرى وضع آليات تضمن تقليل احتمالات الغبن والإجحاف في منظومة القوانيين والتشريعات السارية المفعول على صعيد صعيد توزيع الثروة وتكافؤ الفرص.
٢- مبادئ و مكونات العدالة الاجتماعية
إن المكونات الجوهرية لمفهوم العدالة الاجتماعية تشمل عديد المتغيرات والمبادئ المادية وغير المادية التي نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: مبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين، مبدأ عدم التمييز ،مبدأ التضامن والتكافل المجتمعي، مبدأ حق النفاذ إلى رأس المال، كبح جماح المحسوبية والزبونية في الحياة العامة، مبدأ المساواة في الحقوق والوجبات المدنية بمعناها العام كالمساواة في الخدمات القاعدية للمرافق العمومية ومبدأ العدالة في الاستفادة من المساعدات الاجتماعية عند الاقتضاء وكذلك العدالة في النفاذ إلى التتحويلات الاجتماعية
( les transferts sociaux ) وفق ضوابط عقلانية نزيهة وشفّافة. هذا ولا يخفى أن لمبدأ المساواة علاقة إدراكية بموضوع الحد الأدنى الأجور الذي نتناوله هنا واضعين إياه في سياق الجهود العامة لتحقيق العدالة الاجتماعية.لكن قبل الخوض في تفاصيل لاحقة يجدر التذكير هنا بحقيقة أنّ مفهوم المساواة هو مفهوم نسبي فلا وجود لمساواة مطلقة بين البشر المتمايزين بالفطرة مع العلم أن بعض التفاضلات في الدخل أو في الرزق بشكل عام تعتبر سنة حياتية كما ورد في محكم التنزيل عند قوله جل شأنه: ( والله فضل بعضكم على بعض في الرزق )/cf. الآية 71من سورة النحل .
لا مشاحة ولا مناص إذن من الاعتراف بوجود التفاضل الجبلّي في الحياة إلا أن ذلك لا يعني ترك الحبل على القارب ولا يعني هضم الغني لحق الفقير ولا هضم أرباب الأعمال لحقوق العمال . بل إنه رغم بعض التفاضلات الطبيعية كانت وستبقى العدالة الاجتماعية مطلبا حقانياً يستقي مشروعيته من الدين والأخلاق والقوانين الناظمة لسيرورة المجتمعات الإنسانية.إن كل المجتمعات الإنسانية الناضجة ( أي مجتمعات ما بعد العصور الحجرية الغابوية و مجتمعات ما بعد عصر السيبة ونحوه) تُدرك بوعيها وحسها المدني مدى الحاجة إلى وضع منظومة معايير ومساطر قانونية كفيلة بإزالة الفوارق المُجحفة و توفير إطار معاملات عادل و حصص عادلة من ثروات وخيرات الوطن لكل فرد من أفراده بطريقة عملية واقعية وقابلة للتحسين المستمر. .على هذا الأساس يمكننا القول إن العدالة الاجتماعية هي مجموع الآليات والقوانين والنُظم الداخلية التي يتم العمل من خلالها على تحقيق الإنصاف المتوازن داخل المجتمع. لا غرو إذن أن يحظى مفهوم العدالة الاجتماعية باهتمام عميق في كل الحضارات والمجتمعات القديمة والمعاصرة رغم تعدد وتمايز الوسائل المُتبعة لترجمته على أرض الواقع. تعددت الوسائل والهدف واحد ضبط معادلة التوازن التنموي سبيلاً إلى الرفع من مستوى سعادة الفرد والمجتمع. وعياً بأهمية هذه القضية المحورية كهدف مجتمعي عابر للعصور ، كانت للفلاسفة والمفكرين على مر التاريخ إضاءات وإسهامات رائدة تحوم حول نفس الهدف . يرى العلامة ابن خلدون أن العدل هو أساس العمران..أي أنه يكاد يقول بلغتنا المعاصرة لا عمران ولا تنمية حقيقية إلا بوجود العدالة الاجتماعية. و يرى الفيلسوف الأمريكي جون رولزْ أن العدالة كإنصاف هي الفضيلة الأولى للمؤسسات الاجتماعية، كما هي الحقيقة المركزية للأنظمة الفكرية مشيراً إلى أن المؤسسات مهما كانت كفوءة وجيدة التشكيل لابد من إصلاحها أو إبطالها إذا كانت غير عادلة. وتبقى الغاية هي تحقيق الانسجام بين الإنسان والطبيعة، بين الإنسان والآخر، وبين الإنسان ونفسه. في نفس السياق الفكري نجد أن الفيلسوف الفرنسي “كانطْ” دعا بقوة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية حيث واجه بقلمه وفكره ما كان سائدا ً في أوروبا من غبن وإجحاف وجاء من بعد كانط مفكرون كثر دعوا وسعوا إلى نفس الفكرة بأساليب ونظريات متعددة كنظرية العقد الاجتماعي عند جان جاك روسوْ وغيره
تندرج نظرية العدالة كإنصاف التي بلورها الفيلسوف رولزْ في نفس السياق المنهجي وإن كانت تميزت بترسانة مفاهيمية أقوى ونسق منهجي أكثر تكاملية ولاغرو فالمتأخرون أكمل نظرا كما يقال.لهذا نجد أنّ رولز ذهب أبعد من سابـقيــهِ خصوصا على مستوى رفضه للظروف الطبيعية والاجتماعية التي تجعل بعض المواطنين الأكثر حظا ً يتنعمون على حساب مَنْ هم أقل حظا ً حسب تعبيره.
كما أسلفنا حظيت إشكالية العدالة الاجتماعية باهتمام شديد في كل الحضارات وكل المجتمعات أياً كانت عقيدتها أو هويتها ففي المجتمعات الإسلامية مثلاً كانت ومازالت العدالة الاجتماعية قيمة أخلاقية وشرعية عظيمة فقد جعل الإسلام الزكاة ركنا من أركانه ولا يخفى على أحد أن الزكاة تمثل فضلاً عن دورها الوقائي من خطر الاكتناز السلبي ( كبح جماح التراكم السلبي للثروة ) يمكن أيضاً أن تلعب دوراً في تدعيم سياسة التحويلات الاجتماعية ( جانب العدالة التوزيعية ) لكن الزكاة- رغم كونها آلية اجتماعية عظيمة و رغم كونها وسيلة فعّالة لإنجاح جانب من جوانب التضامن المجتمعي – إلا أنها في الواقع بعيدة من ذلك بل عانت كثيرا ومازالت تُعاني من ضعف الـمـَـأســَسة ويالتالي بقيت محصورةً منذ قرون في حيّز القطاع غير المصنف مما قلل من أثرها الاجتماعي وجعل دورها شبه هامشي في الاقتصاديات المعاصرة رغم ما يمكن أن تتبوءه من مكانة إِنْ هي مُؤْسست بطريقة عصرية تضمن تحصيلها بانتظام وإيصالها إلى مستحقيها بوعي والتزام( وسنعود إن شاء الله إلى هذا الموضوع في مقال لاحق لتقديم تصور عملي عن حجم الحاجة لمأسسة فعّالة في هذا الاتجاه)
عموماً مهما قدمنا من سرديات فكرية بهذا المجال فإن موضوع العدالة الاجتماعية سيبقى موضوع واسعًا ذا روافد وآليات عديدة.لكن كما هو واضح من العنوان سنركز في هذا المقال على الدور الذي يمكن أن تلعبه السياسة التشغيلية وسياسة الرفع من مستوى الحد الأدنى للأجور صحيح أنه بالإمكان تصور العديد من الآليات والرافعات الحيوية التي من خلالها يمكن يتم تسجيل نقاط على خارطة طريق تحقيق العدالة الاجتماعية.من تلك الآليات على سبيل المثال لا الحصر سياسات العمل على تكافؤ الفرص، سياسات النفاذ إلى رأس المال وسياسات التشغيل الهادف التي تأخذ في الاعتبار مبدأ الحق في رواتب وأجور عادلة والرفع التدريجي من الحد الأدنى للأجور ضمن منطومة متكاملة الأبعاد.
٣-الحد الأدنى المضمون للأجور وأهميته في جهود تحقيق العدالة الاجتماعية ؟
إنّ مفهوم الحد الأدنى للأجور كمؤشر سوسيو-اقتصادي هو مفهوم حديث نسبيا خاصة إذا نظرنا إلى تاريخ اعتماده و إطاره التشريعي الرسمي.
فتاريخيا تمّ إنشاء هذا المؤشر في خمسينات القرن الماضي بفرنسا تحت مسمى ( Smig) أي الحد الأدنى المضمون للأجور بين المهنيين ثم تم تحديث التشريع المتعلق بهذا المفهوم مطلع سبعينات القرن الماضي من خلال مرسوم صادر من حكومة جاك شاربانْ-دالماسْ سنة 1970.
وصار الرمز الجديد له هناك هو smic في إشارة وربط ذي دلالة بمستوى النمو :
(SMIC: Salaire MinimumInterprofessionnel de Croissance).
في المقابل تجدر الإشارة إلى أن هذا المفهوم ليس معمول به حرفياً في الفضاءات الأنگلوسكصونية وإنما فيها يتم التعبير عن معنى عام يقابله في الأدبيات الاجتماعية المتعلقة بالموضوع وهو مفهوم الرواتب العادلة: ( fair wages).
لكن فكرة ( smic ) في جوهرها أو قاعدة الحد الأدنى للأجر المهني كمؤشر تنموي هي قاعدة متبعة في حوالي تسعين بالمائة من دول العالم اليوم. وبلادنا ليست استثناء من القاعدة بل يوجد فيه هذا المؤشر وهو الْيَوْم في حدود ثلاثين ألق قديمة شهرياً
يعتبر هذا المبلغ ضعيفًا مقارنة بمتوسط الحد الأدنى للأجور حسب المعيار المتوسط عالمياً (المطبق تحديدا على فئة العمال الأقل حظا في توزيع المداخيل ) حيث يقدر ب198 دولار لنقل إذن أن المتوسط هو مبلغ مائتين دولار شهرياً حسب إحصائيات مكتب الشغل العالمي التابع للأمم المتحدة
يتضح جليًا أن مبلغ الحد الأدنى للأجور في بلادنا أي ثلاثين ألف أوقية قديمة مازال بعيداً من المتوسط العالمي ويكون بطبيعة الحال أضعف وأبعد أكثر وأكثر إذا نظرنا استئناسا لا مقارنةً بحجمه في دول العالم الصناعي ( انظر المخطط البياني مثلا لدول OCDE)
لكن موضوعيا يمكن القول إنّ حجم {smig} الرسمي في بلادنا يبدو قريبا من مستويات الحد الأدنى للأجور في دول مجاورة مثل مالي والنيجر و لكنه بعيد نسبيا من مستويات {smig}دول الجوار الشمالي كالمغرب حيث يصل الحد الأدنى للأجور إلى ما يعادل تسعين ألف أوقية أي تقريبا ثلاثة أضعاف الحد الأدنى للأجور في موريتانيا.
٤-هل من سبيل إلى رفع مستوى الحد الأدنى للأجور وهل يؤدى رفعه إلى تبعات إيجابية على الرواتب الأخرى؟
ما من شك في أن ارتفاع مستوى الحد الأدنى للأجور يؤدي إلى نوع من العدالة التوزيعية لصالح فئة العمال والموظفين لكن يختلف الاقتصاديون حول نجاعتهحيث تحوم بعض الشكوك حول سرعة انعاكس أثر رفعه على مجموع المواطنين وعلى مناخ الأعمال والتنافسية الاقتصادية.
بخصوص ماإذا كانت لرفع سْميچ تبعات إيجابية على منظومة الرواتب بشكل عام.يمكن القول إن الأثر المتوقع موجود لكن عديد الدراسات تُثبت بأنه ينحصر أساسا في الرواتب القاعدية القريبة من الحد الأدنى.
لقد حاولتْ بعض الدراسات الأكاديمية التحقق من ذلك الأثر الإيجابي لرفع مستوى سميچ ولو فقط ب ١% و عند تحليل النتائج تتباين التأويلات وتتداخل بشكل كبير حول حجم ذلك الأثر واقعياً نظرا لصعوبة عزله كمتغير عن متغيرات اقتصادية أخرى..وبالجملة فهناك مقاربتان لدراسة ذلك الأثر: المقاربة الماكرو-اقتصادية وتستخدم معادلات تحليلية للرواتب والأجور في علاقتها مع مستوى النمو ومع الحد الأدنى للأجور وتربط المجموع بمستويات الأسعار ومستويات البطالة. في إطار هذه المقاربة توصّل عديد الباحثين مثل پاسرون و رومانسْ وشاوفين وغيرهم إلى أن أية زيادة في smic بنسبة ١٪ تؤدي إلى ارتفاع في متوسط الرواتب القاعدية بنسبة تتراوح ما بين 0,1 و0,25%
وهو أثر طفيف جداً. رغم أن الدراسات المذكورة اعتمدت على إحصائيات تغطي ثلاثة عقود من الزمن.
بالنسبة للمقاربة الثانية هي مقاربة ميكرو-اقتصادية
والدراسات المسجلة وفق هذه المقاربة أثبتت أن أثر رفع smic يتركز أساساً على الرواتب الضعيفة القريبة من الحد الأدنى للأجور ..وأن هذا الأثر يتناقص تدريجياً بقدر ما نصعد في هرم الرواتب بحيث يختفي تماما حين نصل لخانة الرواتب التي تزيد بضعفين على الحد الأدنى للأجور. كان ذلك بالنسبة لمدى تأثر عموم الرواتب بسياسة الرفع للحد الأدنى الأجور ويظهر جليًا من خلال الدراسات الإحصائية أن التأثر العام عادةً يكون نسبياً بل ضعيف جداً خاصة عند الابتعاد عن قاعدة الهرم.
في الختام نؤكد بأنّ كل عملية رفع للحد الأدنى للأجور قد تنتج عنها بطبيعة الحال آثار وانعكاسات أخرى عديدة خاصةعلى مستوى كلفة الشغل واليد العاملة لكن في سياقنا المحلي في الوقت الراهن وبالنظر لتوقعات النمو في الاقتصاد المحلي فإن الاتجاه العام يقتضي الرفع التدريجي الموزون لهذا المؤشر الحيوي بحيث يساهم في ضبط إيقاع العدالة الاجتماعية موازاةً مع الجهود والآليات الأخرى المتبعة لضمان السلم المجتمعي والنمو المتزن في موريتانيا تسع الجميع.
بقلم بشير الساس شيخنا محمدي