تموج الساحة الدولية اليوم بسيل من الدراسات والبحوث، الصادرة عن مراكز الدراسات البحثية في العالم، مصحوبة بتصريحات لخبراء يشددون فيها على ضرورة توقع خطر وشيك، يهدد السلم العالمي، سيقلب جميع الثوابت الحالية رأسا على عقب، بفعل بوادر تراجع القطبية الواحدة، الناتج عن نمو الإقتصاد الصيني بنسبة تتجاوز سنويا ال6%، في حين أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية عاجزة عن تجاوز نسبة نمو تفوق 2.5%، الشيء الذي سيدفع بالصين إلى المقدمة عالميا، حيث سيضاعف اقتصادها اقتصاد الولايات المتحدة سنة 2030 ، الشيء الذي يؤكد الخبراء أنه سيدفع بالولايات المتحدة الأمريكية إلى شن حرب عسكرية ضد الصين هذه السنة (2020)، كي تعرقل اندفاع الصين نحو المقدمة، وحتى لا تفقد هي زعامتها للعالم.
صراع تؤطره عوامل كثيرة منها الأزمة الإقتصادية العالمية الوشيكة، التي يؤكد الخبراء أنها ستهز العالم خلال الأشهر القليلة القادمة..أزمة تضاهي في قوتها وتأثيرها الأزمة الإقتصادية العالمية سنة 1925.
كما سارعت من وتيرته السياسات الحمائية، التي دشنها الرئيس ترامب من خلال شعار: “أمريكا أولا”، الذي ضرب في الصميم جميع الإتفاقيات الدولية في مقتل، فصار كل بلد يرفع شعار: “أنا أولا”، الشيء الذي ولد صراعا تؤطره المصالح الذاتية، فكانت أولى تجلياته: أزمة انهيار سعر البترول، التي دفعت بالسعودية إلى زيادة إنتاجها اليومي بأكثر من 3 مليون برميل، لكي تعوض جزءا من دخلها السابق قبل انهيار سعر النفط، الناتج عن قرارها الصادم وغير المتوقع، الذي أدى إلى فوضى في سعر البترول عالميا، إرضاء للرئيس ترامب، وتضحية بمصالحها العليا، هي وبقية البلدان العربية والإسلامية المنتجة للبترول- رغم تحذير أهم المؤسسات المالية الدولية لدول الخليج بقرب تلاشي وفرتها النفطية.
إننا على أبواب مرحلة شديدة الخطورة والتأثير على مجريات الأمور عالميا، قد تكون أزمة البترول و”كورونا” أولى تجلياتها الدالة.. تحول قد يقلب كل الثوابت الحالية رأسا على عقب.. فقد تنتقل قريبا قيادة العالم من أمريكا إلى الصين، وستنهار مفاهيم، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والقانون والشرعية الدوليين، وستتغير قواعد اللعبة الدولية الحالية وسيتم إبدالها بأخرى، لا يمكن تصور كنهها، إلا بعد انقشاع غبار المعركة المقبلة ومعرفة الطرف المنتصر، الذي ستكون له الكلمة الأولى في العالم.
إن الإنتقال من اقتصاد السوق ومرجعية البورصة، إلى اقتصاد المعرفة وفضاء التكنولوجيا الذكية، قزم الثروة المعدنية وعوامل الثراء التقليدية و سيطيح هذا التحول أيضا بالفقاعات الإقتصادية، التي حولت الولايات المتحدة وبقية دول العالم إلى مدينين بثلاثة أضعاف دخلهما.
تحول غير النظرة التي كانت ترى في الكثافة البشرية عبئا ثقيلا ومصدرا لحاجات أولية يصعب توفيرها، وجعلها شرطا للثروة وأهم وسيلة للتطور والسير في مقدمة الركب العالمي، بعد أن صار اقتصاد المعرفة والتكنولوجيا الذكية، هما الموجه الأساسي للبوصلة الدولية الحالية.
******
أمام هذا التحول ادراماتيكي العالمي، الذي قد يقلب النظام العالمي رأسا على عقب، فهل قمنا نحن الموريتانيين بوقفة مع الذات، نراجع خلالها أنفسنا أولا، ونبحث ثانيا عن مأمن يقينا شرور الحرب العالمية الوشيكة، والتي قد يكون أولى ضحاياها: البلدان الهشة والشعوب المتخلفة؟
هل سنكتفي بالتزلف والتضحية بالصالح العام وتجاهل الأولويات وتهميش الكفاءات وسيادة الزبونية، وتغليب الآني على المستقبلي، بوصفهم أفضل سلاح ينجي نساءنا وأطفالنا من شرور تلوح في الأفق؟
أي مصير ينتظرنا إذا توقف المعبر الحدودي مع المغرب ليوم واحد، وبأي آلية سنوفر لشعبنا حبة البصل وبقية الحاجات الأخرى المماثلة؟
أين هي المصانع الوطنية، التي ستسد هذا النقص وستغذي السوق الوطني عند الحاجة؟
وهل نجحنا- من خلال “ثوراتنا الزراعية” المتكررة- في الاستغلال الأمثل لسبعمائة كلم على النهر وفضائها الخصب الشاسع، أن نوفر تأمينا غذائيا لبلدنا المترامي الأطراف وقليل الكثافة السكانية؟
هل سنواجه التحديات المصيرية بالتساهل القاتل مع الخطابات العنصرية والشرائحية، التي تسعى إلى خلق انقلاب في الوعي، يغذي الفتنة ويزور الماضي ويؤزم الحاضر لحاجة في نفس اليعاقبة؟
بأي مسوغ نقبل انتظار الفعل، لنقوم لاحقا برد الفعل؟ ولماذا لا نعي خطورة الظرف، فنغير “النهج”، ونبحث عن صيغة نستند إليها، بغية تخفيف الخسائر المحتملة؟
إذا كان التعليم الألكتروني والمنصات التعليمية الألكترونية، هما البديل العملي لما يعانيه التعليم المنهار في موريتانيا، فلماذا لا نجرب هذا الأسلوب، الذي يتدافع العالم اليوم من أجل الظفر بالسبق فيه؟
ألم نكتشف بعد- ولو متأخرين- أن الرأسمالية تلفظ اليوم أنفاسها الأخيرة، وأن عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح من الماضي عمليا؟
ألم نتجرع طويلا مرارات المعادلة الصفرية، التي تلزمنا بتقديم كل شيء للمستعمر الفرنسي- بما ذلك مصالحنا العليا وهويتنا الحضارية- دون أن نحصل في المقابل على أي شيء؟
إذا كانت المواجهة العالمية المحتملة، ستغير جميع الثوابت الحالية، فهل سنبقى محشورين ضمن تلك الدائرة الصفرية، نتجرع مرارة الهيمنة وتحقير الذات..أم أننا سنستثمر علاقاتنا التاريخية والمتميزة مع الصين، لنضمن وقوف حليف قوي إلى جانبنا، في وقت سيعز فيه الأصدقاء الأوفياء؟
أسئلة لا نسعى من خلالها إلى التخويف أوزرع الرعب في قلوب المهتمين الغيورين..وإنما هي الحقيقة المرة، التي تؤكدها مراكز الدراسات العالمية وينادي بها الخبراء المحترمون، والتي نرى أن الكثير من نخبتنا عنها غافلين أو متغافلين، لانشغالهم بالبحث المستميت عن مزاج أي رئيس يحكم البلد، بغية الظفر بمعرفة مزاجه وما يرضيه، فيقومون به، وترك ما يزعجه ليرضى عنهم هم، تزلفا وطمعا وتغليبا للمصلحة الشخصية على حساب الصالح العام؟
إننا اليوم ننعم بمناخ توافقي هادئ، يعتبر مثاليا للعمل والبناء، فلنكرس وقتنا جميعا لصالح بلدنا، في وقت نحن فيه بأمس الحاجة إلى قيادة واعية ونخبة عاقلة، يعملان معا على خلق قطيعة كلية مع ماضينا، المحكوم بثنائية الخداع المتبادل: أنظمة تبيع الوهم لشعبها ويطبل إعلامها ل”إنجازاتها الجبارة”، وشعب تعلن “نخبته” ومتزلفوه “ولاءهم المطلق” لكل من يجلس على الكرسي، بغض النظر عن نهجه، أو أي ممارسات ضارة قد يقدم عليها.
إننا أيها السادة والسيدات، يجب أن لا نؤخذ على غرة.. فنحن أمام لحظة شديدة الخطورة، قد يصبح فيها العالم كله بعد أشهر قليلة، ساحة معركة بين عملاقين، يتصارعان من أجل الإستئثار بزعامة العالم.. لذا يجب أن لا نكون الضحية التي تطحنها أرجل المتصارعين.. فلنبادر وننجز ما نستطيع، لتقليل الخسائر وحجز مكان يناسبنا.. ويكون لأول مرة من خيارنا نحن، بعيدا عن الإعتماد على المعادلات الصفرية والتبعية المذلة والمقيتة.